حارسة البحر للفنان علي نفنوف

حارسة البحر للفنان علي نفنوف:
بانوراما تشكيلية تنبض بالذاكرة الفينيقية

بقلم : فريد ظفور

ليست لوحة «حارسة البحر» للفنان التشكيلي السوري علي نفنوف مجرد عمل فني تشكيلي تقليدي، بل هي مشروع بصري حضاري يسعى إلى إعادة تقديم التاريخ السوري الفينيقي بلغة الفن المعاصر. هي محاولة واعية لجعل التاريخ مادة مرئية يفهمها الجميع: المثقف، الإنسان العادي، الأجنبي، وحتى من لا يعرف شيئًا عن سوريا القديمة.
ولأن هذا العمل الفني استحوذ على إهتمام النقاد والكتاب والفنانين في الاوساط الثقافية السورية ولان المحطة الإخبارية السورية افردت تقريرا مفصلا عن هذه اللوحة نظرا لمكانتها التاريخية في سورية وساحل البحر الابيض المتوسط عموما..
وكان الذهاب آلى هذه اللوحة والإستمتاع بأسرارها واغورها والإستمتاع بالوانها الزاهية رغم محاكاتها للتاريخ..تابعوا معنا …

لوحة بانورامية… بعين المؤرخ وريشة الفنان:

تمتد اللوحة بطول يتراوح بين مترين وتسعة أمتار، وهي بانوراما تشكيلية متدرجة زمنيًا وبصريًا، صيغت على مراحل عدة وبنَفَس طويل، عكس فيه الفنان جديته في البحث والدراسة، وشعوره بالمسؤولية تجاه نقل معلومة تاريخية دقيقة. وقد عبّر علي نفنوف عن ذلك بقوله:

“المعلومة التاريخية أمانة في عنق الفنان، وليست مادة تجريبية”.

رموز حضارية وتاريخية:

تتجلى في «حارسة البحر» كل عناصر الهوية الفينيقية السورية، بدءًا من الأسطورة والمعبد، إلى السفينة والكتابة. من أبرز ما ضمّته اللوحة:

الآلهة الفينيقية الكبرى:

الإله بعل (رمز القوة والخصب)،

الإلهة عشتار (رمز الحب والإنجاب)،

الإلهة منيرفة (رمز الحكمة والحماية).

المعمار والرموز الطقسية:

السفن الفينيقية التي عبرت المتوسط،

حصن سليمان،

كرسي الملك ملقارت، ومغازل عمريت،

الملكات الفينيقيات في عمريت، كمؤشر على الحضور الأنثوي الحاكم.

الرموز الثقافية:

طائر الفينيق،الذي يعتبر رمز للنهوض السوري والقيامة حيث يتطهر بالإحتراق ويعود إلى الحياة من الرماد.

صدفة الموريكس لاستخراج اللون الأرجواني،
الذي اصبح هذا اللون هو اللون الخاص بطبقة النبلاء في العالم وهو لون فينيقي سوري.تم تصديره إلى العالم عبر الجرار الفخارية وبالسفن الفينيقية التجارية،وقد وصل هذا اللون الإجواني إلى مرحلة القداسة والتقديس احيانا.وقد إرتبك إسم الفينيقيين بهذا اللون حيث كانوا يسمونه ( فينيكس).

نقوش فينيقية:
مثل نقش بارابيا- نقش بعل
هاني بعل القائد القرطاجي،
– اعمدة حجرية فينيقية
توابيت فينيقية في متحف جبيل

فخاريات وأوزان فينيقية رمزية.

اللغة والكتابة:
اللوحة تضم الأبجدية الفينيقية الكاملة (٢٢ حرفًا صوتيًا)، والتي تعتبر أول أبجدية في التاريخ، ولبنة ظهور اللغات المكتوبة الحديثة.كون هذه الأحرف لم تكن مجرد رسم او نقش بل كانت عبارة عن حرف صوتي له موسيقاه ودلالاته وتاويلاته الخاصة به.

الآلهة السورية في اللوحة: عشتار وبعل بوصفهما مركزَي الذاكرة الحضارية

في قلب لوحة «حارسة البحر» ينبض رمزان أساسيان من رموز الهوية السورية الفينيقية: عشتار وبعل. لم يأتِ حضورهما كرموز دينية مجردة، بل كعلامتين بصريتين – حضاريتين، تُلخّصان روح الحضارة الساحلية القديمة وتجدّدهما في الفن المعاصر.

عشتار: الأم الكبرى… والرمز الأنثوي الكوني:

عُرفت عشتار في الحضارات السورية القديمة بوصفها الإلهة الأم، وأمّ الآلهة، وهي ليست فقط رمزًا للحب والخصب كما يُشاع، بل أيضًا رمزٌ سوريٌّ مستقلّ بذاته، يشير إلى الأنوثة الخالقة والحامية.
في اللوحة، تم استحضار نقش دقيق لعشتار مستلهم من التمثال الموجود في متحف اللوفر في فرنسا، وقد أعاد الفنان صياغته برؤية فنية تجعلها تُطل على اللوحة كمن يُبارك التاريخ ويحرس الجغرافيا.

بعل: الإله المحارب… سيد السواحل والمطر:

يمثل بعل في اللوحة حضورًا مركزيًا، إذ يتوسط التكوين، في إشارة إلى كونه الإله السيادي، والمحارب، والرمز الساحلي بامتياز.
بعل هنا ليس فقط رب المطر، بل أيضًا:

إله (الحماية)،

إله الرِيّ (الخصوبة)،

وإله البعل الذي ارتبط بالمدن الساحلية السورية في أوغاريت وطرطوس وجبيل.
استند الفنان في تشكيله إلى الرمز البصري لبعل الموجود في متحف اللوفر، لكنه منحه حركة داخلية وهالة رمزية تجعل منه روح اللوحة النابضة.

السفينة الفينيقية: من أعماق البحر إلى الذاكرة البصرية:

من أبرز الرموز الحاضرة في لوحة «حارسة البحر»، صورة السفينة الفينيقية، تلك التي لا تمثل فقط وسيلة نقل، بل أيقونة حضارية وتجارية غيّرت وجه التاريخ البحري في حوض المتوسط.

في اللوحة، تُرسم السفينة بأسلوب بصري ينبض بالحركة والانسياب، وكأنها لا تزال تشقّ طريقها وسط أمواج المتوسط، تُبحر من سوريا إلى قبرص، ثم إلى قرطاج، فإسبانيا، في رحلة معرفية وتجارية وثقافية لا تنتهي.

هذا الرمز في اللوحة يستند إلى اكتشاف أثري حقيقي لحطام سفينة فينيقية في أعماق البحر، ما أعاد تسليط الضوء على المهارة الفائقة التي امتلكها الفينيقيون في بناء السفن.

وتجسيدًا لهذا الرمز التاريخي، قامت الدولة السورية عام 2005، من جزيرة أرواد، بإعادة إحياء هذه السفينة الفينيقية، في مبادرة نادرة تمثّلت في:

صناعة نسخة مطابقة للسفينة التاريخية، باستخدام أدوات وأساليب مشابهة لما كان يُستخدم قديمًا.

إطلاقها عبر الطريق البحري القديم نفسه، في محاولة حيّة وجريئة لإحياء الهوية البحرية الفينيقية السورية.

هذه المبادرة وجدت صداها البصري في اللوحة، إذ جسّدها الفنان بأسلوب فني يُعيد ربط الحاضر بالتراث، والرؤية التشكيلية بالوثيقة التاريخية، لتصبح اللوحة جسرًا آخر من جسور بعث الذاكرة السورية البحرية.

صفة الموريكس والأرجوان الملكي: حين يتحول البحر إلى لون

من الرموز المضمَنة بإبداع في لوحة «حارسة البحر»، ما يبدو للعين العادية مجرد صدفة بحرية، لكنه في الحقيقة بوابة لأسطورة ولون وهوية حضارية: إنها صفة الموريكس، الرمز الفينيقي الأصيل لإنتاج اللون الأرجواني الملكي.

استحضرت اللوحة هذه الصدفة بحجم رمزي، مضيئةً بلون أرجواني مشع، كأنها قطعة من الذاكرة، أو حجر كريم في تاج البحر.

أصل القصة يعود إلى أسطورة الحورية تيروس، عشيقة الإله ملكر (الإله الحامي لمدينة صور).
ذات يوم، بينما كانا يتمشيان على شاطئ البحر في مدينة صور، لاحظا أن كلب الحورية تيروس عضّ صدفةً بحرية غريبة الشكل (الموريكس)، فتلطّخت فمه بلون أرجواني فريد لم يُرَ من قبل.
حينها أُعجبت تيروس بهذا اللون النادر، وطلبت من الإله ملكر أن يُهديها ثوبًا ملكيًا أرجوانيًا مماثلًا. وهكذا، بدأت أسطورة الأرجوان الفينيقي، الذي أصبح فيما بعد لون النبلاء والملوك في الحضارات القديمة.

هذه الأسطورة، وإن بدت خيالية، إلا أنها تُخفي خلفها معرفة كيميائية واقتصادية دقيقة: حيث كان الفينيقيون يستخرجون اللون من الغدد الداخلية لآلاف من هذه القواقع البحرية، ويجففونه ويحوّلونه إلى صباغ نادر.

في اللوحة، لا ترمز الصدفة فقط إلى اللون، بل إلى الرغبة في الجمال، والابتكار، والحضور الأنثوي الذي يقود الاكتشاف. وقد رُسمت بأسلوب تعبيري خفيف، تتداخل فيها درجات البنفسجي والأرجواني، لتعكس حضور اللون كقيمة حضارية وتاريخية أكثر من كونه مادة فنية فقط.

اللون بوصفه بُعدًا زمنيًا وجغرافيًا

استخدم الفنان ألوانًا زاهية ومدروسة بعناية، تعكس البعد الجغرافي والتاريخي للحضارة الفينيقية الساحلية:

الترابي: يرمز للأرض، للتاريخ، للبناء الأول.

الأخضر المُجرّق: لون الخصوبة والنبات والجبال.

الأزرق المُخضّر: البحر، الموج، المرافئ، السماء، الانفتاح.

هذا التناغم اللوني يمنح اللوحة روحًا ساحلية صافية، ويخلق جسرًا بصريًا بين الماضي والحاضر، بين الرمز والتكوين، بين الواقع والأسطورة.

الفن بوصفه كتابة ثانية للتاريخ

لوحة «حارسة البحر» هي أكثر من عمل فني:
هي بيان بصري حضاري، وإعادة صياغة لتاريخ سوريا الفينيقي بأسلوب فني حداثي يفهمه كل من يراه، بغضّ النظر عن خلفيته الثقافية. هي رسالة بصرية تقول:

> «هنا وُلد البحر، وُلدت السفينة، وكُتبت أول أبجدية، وهنا ما زال التاريخ حيًّا… على القماش.»

* حارسة البحر برؤية الفنان علي نفنوف :

حين أنجزت حارسة البحر، لم يكن هدفي أن أقدّم عملًا فنتازيًا أو ترفًا بصريًا معزولًا عن الواقع، بل كنت أحمل أمانة شعورية وتاريخية في آنٍ معًا.
أنا أؤمن أن الفنان التشكيلي لا يرسم فقط، بل يروي ويُوثّق ويستعيد. التاريخ السوري مثل البحر، واسع ومركّب، ومليء بالقصص التي لا يجوز أن تُختزل في سطور أكاديمية جافة تقول: “قبل الميلاد” أو “بعد الميلاد”.
الفن، بالنسبة لي، هو وسيلة لتقريب هذا التاريخ من الناس، من الجميع، دون تعقيد أو نخبوية.
اللوحة ليست فقط ألوانًا وأشكالًا، إنها مرآة لذاكرة شعب، وصوت أنثوي حارس، يقف عند شاطئ الزمن ليقول: “هذا ما كان… وهذا ما يجب ألّا ننساه.”
في زمن أصبحت فيه الصورة أسرع من الفكرة، أجد أن الفنّ مسؤولية، لا فقط خيال.
وهنا كانت محاولتي هي كسر اللامألوف للوصول إلى المألوف بمعنى أنه لا يجوز قراءة الماضي كما كان بل خلقه كما يجب أن يكون تماما مثل فلسفة لوحة تجريدية.

*خاتمة:
تجعلنا هذه اللوحة نُدرك أن الفن، حين يُمارس بإخلاص ومعرفة، يمكن أن يصبح أداة تعليم، ووسيلة مقاومة للنسيان، ونافذة مفتوحة على حضارات كانت… وما تزال تسكننا.
* فريد ظفور

Exit mobile version