عبد الرزاق بعجي قامة سينمائية جزائرية برؤية مستقبلية
بقلم المصور رفيق كحالي
بصمة الضوء التي تُعيد تشكيل مرآة السينما الجزائرية
في فضاء السينما حيث تلتحم الأحلام بالواقع، ينهض فنانون يحملون مشاعلَ التحدي. ومن بين هؤلاء السينيمائي الجزائري عبد الرزاق بعجي، الذي لا يُعد مجرد صانع أفلام، بل حكّاء بصريٌ ينسج من خيوط الهُوية والإنسانيات لوحاتٍ سينمائيةً تتجاوز الحدود. مسيرته ليست رحلةً فنيةً عابرة، بل ملحمةٌ من الصمود والإبداع تُجسّد روح السينما الجزائرية في أسمى تجلياتها. يبرز بعجي كقامة سينمائية تحمل على عاتقها مسؤولية النهوض بهذا الفن، مدفوعًا بشغف عميق ورؤية مستقبلية واضحة.
من هاوية الهواية إلى قمة الاحتراف رحلةٌ لا تعرف المستحيل
بدأ عبد الرزاق بعجي مسيرته الفنية في عالم السينما كهاوٍ، وهو ما يؤكد شغفه العميق بهذا الفن. كما ورد في حواره التاريخي مع جريدة “اليوم” (يوليو 2000)، بدأ بعجي كـ”شاب هاوٍ” يواجه إهمال المؤسسات وندرة الإمكانيات. لكن إيمانه بموهبته – كما قال آنذاك – جعله ينتظر “نقرة القلوب” ليُثبت قدراته. لم يكن الانتظار سلبيًا؛ بل حوّله إلى وقودٍ للإبداع. عمل كمساعد مخرج لأفلام المخرج فريد لخضر حمينة في الفترة ما بين عامي 1995 و1997. هذه التجربة المبكرة، على الرغم من بساطتها، كانت بمثابة حجر الزاوية في بناء خبرته وتعميق فهمه لعملية الإخراج السينمائي. كما شارك في عدة أفلام ضمن سينما الهواة، مما منحه فرصة لتطبيق رؤاه الإبداعية وصقل مهاراته في هذا المجال. من مدينة المسيلة التي وصفها كـ”علامة في الصورة السينمائية”، انطلق ليصنع لنفسه مسارًا مختلفًا فنان تشكيلي يمتلك رؤية بصرية فريدة، ومخرج سينمائي يرفض تقديم “أشياء باهتة” – وفق تعبيره الملحمي – مفضلاً الجودة على الكثرة.
فلسفة الإبداع عندما يصير الفن رسالةً وجودية
يؤمن بعجي بأن السينما ليست تسليةً عابرة، بل حوارٌ جمالي مع الذات والآخر. في حواره القديم، كشف عن رؤيته الثاقبة
“أنا إنسان أقدر عملي، وليس خيارًا أن أقدر أشياء باهتة… أحاول دائمًا إخراج المنافع من المفاهيم الإنسانية”
يؤكد بعجي على أن التكوين والوظائف البسيطة في مجال الإخراج السينمائي تلعب دورًا حيويًا في بناء جيل جديد من المخرجين والمبدعين. فهو يرى أن توفير فرص التدريب والعمل للشباب سيساهم في صقل مواهبهم وتزويدهم بالخبرات اللازمة. كما يهتم بعجي بالإخراج السينمائي بشكل عام، ويعتبر أن السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي أداة قوية لتثقيف المجتمع ونشر الوعي بالقضايا المختلفة.
التشكيل والسينما ثنائيةُ الجمال التي تُعيد تعريف الفن
صفحته على إنستجرام تكشف عن عوالمه المتداخلة لقطاتٌ سينمائية كأنها لوحاتٌ متحركة، وأعمالٌ تشكيلية تحمل إيقاعَ السرد السينمائي. هذا التزاوج بين الوسيطين يخلق لغةً بصريةً فريدةً، تجعل من بعجي فنانًا “توتالياً” – يصهر الرسم والضوء في بوتقة سردية واحدة. كما أن عمله كمصور فوتوغرافي يضيف بعدًا آخر لخبرته البصرية والفنية، مما يثري رؤيته الإخراجية.
رؤيته للنهوض بالسينما الجزائرية نقدٌ بناءٌ ورؤيةٌ مستقبلية
لا يقتصر طموح عبد الرزاق بعجي على المشاركة في صناعة الأفلام فحسب، بل يمتد ليشمل رؤية شاملة للنهوض بالسينما الجزائرية على الصعيدين المحلي والعالمي. يرى بعجي أن السينما الجزائرية لم تصل بعد إلى مكانتها العالمية التي تستحقها، ويعزو ذلك إلى قلة الأفلام الجزائرية التي تعكس الهوية الجزائرية بشكل صحيح وتبرزها للعالم. يدعو إلى إنتاج أعمال سينمائية أصيلة تعبر عن الثقافة والتاريخ الجزائريين، وتكون بمثابة جواز سفر للسينما الجزائرية إلى المحافل الدولية. في حوار 2000، لم يتردد بعجي في تشخيص واقع السينما الجزائرية:
“تحتاج السينما الجزائرية إلى إعطاء الفرص للشباب دون إقصاء… ورفع المستوى التقني بدءًا من إنسانية الفكرة حتى حداثة الأساليب”.
رؤيته هي النهوض بالسينما الجزائرية يكون بتمكين الجيل الجديد وربط المحلي بالعالمي، دون التضحية بالعمق الثقافي. يؤمن بعجي إيمانًا راسخًا بأن مستقبل السينما الجزائرية مرهون بالفرص المتاحة للشباب الهاوي. وهو يرى أن هناك طاقات إبداعية كامنة تحتاج إلى الدعم والاهتمام لتزدهر. وقد أكد في إحدى تصريحاته على أهمية الاستفادة من تجربة سينما الهواة التي كانت مزدهرة في الثمانينات، والتي أفرزت العديد من الأسماء اللامعة في هذا المجال. هذه الرؤية تعكس وعيه بأهمية بناء قاعدة قوية من المواهب الشابة لضمان استمرارية وتطور السينما في الجزائر.
بصمةٌ لا تُنسى في سجل السينما العربية
عبد الرزاق بعجي ليس مجرد سينيمائي بل هو ظاهرة فنية شاملة. من تحديات الهواية في تسعينيات الجزائر، تظل مسيرته شاهدةً على أن الإرادة تصنع المعجزات. في كل إطارٍ يخلقه، وفي كل لونٍ يضعه على اللوحة، يُذكّرنا بأن السينما – في جوهرها – هي فن المقاومة بالجمال. وهو، بجدارة، أحد حرّاسها الأوفياء. يعيش بعجي في المسيلة، وهي مدينة جزائرية، مما يعكس ارتباطه بالبيئة المحلية وتأثره بها في أعماله الفنية. إن إصراره على العمل في مجال السينما رغم التحديات، ودعوته المستمرة لدعم الشباب، يجعله قامة سينمائية جزائرية تستحق التقدير والاحتفاء. يمثل عبد الرزاق بعجي نموذجًا للمبدع الذي يؤمن بقدرة الفن على إحداث التغيير، ويسعى جاهدًا لرسم صورة حقيقية ومشرقة لمستقبل السينما الجزائرية.
“الفن الحقيقي لا يرضى بالهامش.. يصرّ على المركز كالشمس.”
— بصمة عبد الرزاق بعجي —












































