د. مروان مسلماني ،أرشيف للزمن،وموثق للآثار السورية.
إعداد: فريد إبراهيم ظفور
في البدء كانت الكلمة..
ولأنه فارس الضوء..وملك الأبيض والأسود ومؤرشف للحضارة والمدن والقرى المنسية والأوابد الأثرية التاريخية..ولأنني أحد تلامذته..والذي كان له الأيادي البيضاء في تعريفي بالوسط الفني الضوئي والتشكيلي والصحافي،وكذلك في إنطلاقتي في مجلة فن التصوير الورقية اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي..
أسطورة للعمل والنضال والصمود الذي لا يلين لغير الحق وخدمة الفن الضوئي..إنه ايقونة الأحادي الفنان الإنسان الدكتور: مروان مسلماني..
يطل الوجه الفوتوغرافي المضمخ بعبق الأرض، وأريج بطولة الأجداد، وشيم الرجولة والحضارة الأصيلة، يمد للتاريخ القديم والعريق، ذراعين مفتوحتين على الورد والفل والياسمين الشامي وأغصان الزيتون، يعانق الزمان والمكان، ويكتب اسمه في القلوب والآثار مدناً من ندى، تتسع وتكبر على امتداد الأرض في بلاد وحضارات بلاد الشام، تفتح له شبابيك الحياة الفوتوغرافية الفنية، تعانق وجهه الأسمر المتلون بلون تراب الأرض والأماكن الأثرية التي صورتها كاميراته وعدساته و الممتدة سهولاً من القمح والورد والأقحوان المعرفي التكويني الضوئي، فقد أصبح المسلماني المصور الموثق الأمين على إرث التاريخ الأثري المعاصر، وقد وجد في ملاحم التاريخ والاوابد الأثرية السورية الخالدة وإنجازاتها العظيمة التي قدمتها للبشرية جمعاء من وجود اول حبة قمح واول محراث واول نوتة موسيقية وكذلك اول ابجدية في رأس شمرا.
فمنذ أن أشرق وهج صور كاميراته ومعداته التقنية الضوئية، والتاريخ العربي السوري يُعيد ترتيب أيامه ووقائعه، كما يعيد تصنيف أوراقه التاريخية، مصوراً ومؤرخاً أميناً لتلك الأيام الخالدة .
ولأنه المصور المتواضع مروان مسلماني، صاحب السّجايا الفوتوغرافية الحميدة، التي تركت آثار بصماته الواضحة بين المصورين في الوطن وخارجه، فإنّ التاريخ قد شهد على هذه الصور والأرشيف والوثائق التي خلدها بعد رحيله.
المقدمة:
في ذاكرة الضوء السوري، يقف اسم الدكتور مروان مسلماني كمنارةٍ لا تنطفئ، وكعدسةٍ رصدت وجه البلاد بحياد العلم وجمال الفن في آنٍ واحد. لم يكن مجرد مصوّر يوثّق اللقطة، بل كان مؤرخًا بصريًا للزمن، وأرشيفًا حيًا لحضارةٍ تمتد من تدمر إلى أوغاريت، ومن أروقة المتاحف إلى عيون الناس. في عصرٍ كانت الصورة فيه رفاهية تقنية، كان مسلماني يسبق زمنه بثقافةٍ علمية دقيقة، وبحسّ فني عميق يضعه بين كبار روّاد التصوير الأثري والسياحي في العالم العربي والعالم.
لقد آمن بأن الكاميرا ليست آلة توثيق فحسب، بل جسرٌ بين الماضي والحاضر، وأداة حضارية تعيد صياغة التاريخ بصريًا، فحوّل آلاف اللقطات إلى مراجع تُدرّس، وأدخل الفوتوغرافيا إلى ساحة البحث الأكاديمي والتاريخي السوري والعالمي.
الفن والتراث عند الدكتور مروان مسلماني :
مروان مسلماني يُعد من أبرز أعلام التصوير الضوئي في سورية والعالم العربي، إذ جمع بين حبه للتراث والتوثيق والدقة الفنية، فكانت عدسته شاهدة على الحضارة السورية القديمة من خلال الآثار والمعالم، كما خاض تجارب فنية معاصرة، فترك خلفه إرثًا بصريًا ضخمًا يضم ملايين الصور.
التعلم المبكر والنشأة والبدايات ومعارضه الأولى:
هو الفنان الرائد: د. مروان مسلماني (أبو يزن)، المولود في دمشق عام 1935م، والراحل في 21 شباط/فبراير 2013م. عن عمر ناهز 77 عاماً. يُعدّ أحد أعمدة التصوير الضوئي في سوريا، وقد كرّس حياته المهنية الطويلة لتوثيق الإرث الحضاري السوري.
في شبابه كان شغوفًا بالصور، فيقول عنه من رافقوه إنه كان يُقص صورًا من المجلات والكتب منذ صغره، محاولًا تقليدها أو دراستها.
في الثانية عشرة من عمره اقتنى أول كاميرا (مستعملة) وبدأ يلتقط الصور لما يجذبه من مشاهد في دمشق: أزقتها، معالمها، الطبيعة المحيطة بها.
في عام 1957م. سافر إلى باريس، وأمضى فيها نحو ستة أشهر يُخفِّف خلالها شغفه بالتصوير، حيث جمع مئات اللّقطات الفنية خلال زيارته هناك.
عقب عودته إلى دمشق أقام معرضه الضوئي الأول عام 1958م. في المتحف الوطني بعنوان “مشاهداتي في باريس”، ولاقت الصور إعجاب الحضور.
هذا المعرض كان نقطة تحول في حياته؛ إذ عُرض في ذلك المعرض مشاهد رُؤيته الفنية التي مزجت بين البساطة والدقة في التعبير الضوئي.
حياته المهنية الرسمية:
انضم مسلماني إلى الهيئة العامة للآثار والمتاحف في سورية في عام 1958، واستمر يعمل فيها حتى 1995 تقريبًا.
تولى إدارة قسم التصوير والأرشيف الأثري السوري في المديرية العامة للآثار والمتاحف.
بصفته مصورًا أثريًا، رافق العديد من البعثات الأثرية وساهم في توثيق الاكتشافات والمكتشفات، بالتعاون مع علماء آثار سوريين ودوليين مثل كلود شيفر (في أوغاريت) وباولو ماتييه، إضافة إلى مواقع أثرية مثل :ماري، تدمر، إبلا وغيرها.
أسهم في تصوير الأختام الأسطوانية الموجودة في بعض المواقع الأثرية السورية، وجعل منها لوحات كبيرة تُقرأ فيها تفاصيل دقيقة لم تكن تُرى بالعين المجردة.
تجاوز مجرد التوثيق إلى التجريب، في جانب من تجاربه الفنية،فقام بإنتاج لوحات ضوئية تجريدية أسمّاها “خلجات”، حيث استخدم أساليب الغرفة المظلمة والمختبر وصورًا ذات طابع فني رمزي، يُعزى له كونه مؤسسًا لاتجاهات عميقة في التصوير المعاصر السوري.
نال شهادة الدكتوراه الفخرية من ألمانيا (الفدرالية) عام 1968 تقديرًا لإسهاماته في التصوير الفوتوغرافي والفني.
إلى جانب عمله في الأرشيف الأثري، كان له نشاطات إعلامية، حيث قدم برامج تلفزيونية وأسبوعية حول فن التصوير،عندما كان الدكتور صباح قباني مديرا للتلفزيون، وشارك في الإذاعة أيضًا.
درَّس مادة التصوير الضوئي في كلية الآداب – قسم الصحافة في جامعة دمشق.
ساهم في تأسيس نادي فن التصوير الضوئي في سورية عام 1982، وانتُخب أول نقيب للمصورين الضوئيين السوريين.
· المسيرة المهنية: عمله بالمديرية العامة للآثار والمتاحف منذ عام 1958 حتى تقاعده في عام 1995م، حيث تولى خلالها إدارة قسم التصوير والأرشيف الآثاري السوري.وهذا سنح له فرصة نرافقة العديد من البعثات الأثرية الدولية والمساهمة في توثيق المكتشفات في مواقع أثرية مهمة مثل أوغاريت وإيبلا وتدمر وماري والمدن المنسية .
· الإسهامات والإنجازات:
تميزت مسيرته الفنية الضوئية بالعديد من الإنجازات البارزة منها:
١ · التوثيق الأثري: أسس أرشيفاً ضخماً يضم آلاف الصور التي توثق آثار سوريا وحضارتها، أصبح مرجعاً أساسياً للباحثين والدارسين حول العالم .
٢ · الريادة الفنية: كان من أوائل من ساهموا في تأسيس نادي فن التصوير الضوئي في سوريا عام 1982، وكان أول رئيس لمجلس إدارته. وسعى طوال حياته لجعل التصوير الضوئي فناً قائماً بذاته في سوريا .
٣ · الابتكار والتجريب: قدم تجارب فريدة في التصوير، منها معرضه “خلجات” الذي استعاض فيه عن آلة التصوير بالمخبر الكيميائي لإنتاج صور تجريدية مدهشة، ونال على هذا العمل شهادة الدكتوراه الفخرية من ألمانيا الاتحادية عام 1968 .
٤ · التأليف: أصدر العديد من الكتب التخصصية المصورة التي أصبحت مراجع مهمة، مثل “سوريا أرض الأنسانية”، “تدمر فن وعمارة”، “البيوت الدمشقية”، و”الجامع الأموي” .
٥ · التكريم: نال وسام الاستحقاق السوري عام 1982 تقديراً لإنجازاته الضخمة في حفظ التراث الوطني ونشره .
التجارب والمعارض والإنتاج الفني:
أقام ما يزيد عن سبعين معرضًا ضوئيًا؛ تنقل بعضها بين دمشق ومحافظات سورية، وبعضها الآخر خرج إلى عواصم ومدن عالمية.
من معارضه المعروفة:
* “المرأة في الآثار السورية”، عرض في مؤتمر عالمي في كوبنهاغن.
* “الآثار الإسلامية” في إسبانيا واليمن.
* “الحضارات السورية القديمة” في جامعات ومدن غربية.
* “سورية أرض الحضارات الإنسانية” عرض في لندن.
* معرضه “خلجات” الذي احتوى على أعمال ضوئية ذات طابع تجريدي ورمزي.
الكتب والإصدارات:
أصدر عدة كتب وكُرَّاسات توثيقية، ومن أشهرها:
* البيوت الدمشقية
* تدمر فن وعمارة
* الجامع الأموي
* الكنائس والأديرة في سورية
* بصرى المدينة الكاملة
* كذلك كتبًا عن الأختام الأسطوانية والآثار السورية بوجه عام.
– بعض تجاربه الشخصية تجمع بين التصوير والفن التشكيلي، إذ تعامل مع عناصر النحت والتكوين الزخرفي، حيث كان يصنع نماذج صغيرة لبعض التماثيل و الآثار والشخصيات التاريخية السورية ويقدمها هدايا للسياح أثناء زيارتهم للمتحف، وربط بذلك بين الكاميرا والفن البصري.
شهرته محليا وعربيا وعالميا:
إنتشرت أعماله وذاع صيته في الأوساط السورية و العربية والدولية باعتباره “ملك الأبيض والأسود” نظرًا لتميزه في التصوير الضوئي بالأبيض والأسود، مع قدرته على المزج بين الموضوع والدلالات البصرية.
رافق بعثات أثرية عالمية من فرنسا وإيطاليا واليابان، وعمل إلى جانب أبرز علماء الآثار مثل كلود شيفر وباولو ماتييه وأندريه بارو، ليصنع معهم ما يشبه الأسطورة البصرية التي وضعت سوريا في قلب الخريطة الأثرية الدولية.
أقام أكثر من 14 معرضاً علمياً متخصصاً داخل سوريا وخارجها، وحوّل الصورة إلى وثيقة علمية لا تقل شأنًا عن النص الأثري أو المخطوط التاريخي. كان رائدًا في توظيف الإضاءة الطبيعية في التصوير الأثري، وفي ابتكار طرق توثيق القطع والمعالم في بيئتها الأصلية دون فصلها عن سياقها الحضاري.
ونتيجة جهوده، حاز وسام الاستحقاق السوري عام 1982، وتُرجمت مؤلفاته إلى لغات عدّة، منها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية، فكانت كتبه بمثابة جسر حضاري بين الشرق والغرب.
كان مسلماني من المؤسسين الأوائل لـ نادي فن التصوير الضوئي في سوريا، وأول نقيب للفنانين الضوئيين، فجمع بين العمل الإداري والميداني، وبين الفن والعلم، وبين الإبداع الشخصي والمسؤولية الجماعية في بناء ذاكرة بصرية وطنية.
لقد صنع من عدسته عينًا للأجيال، تحفظ الملامح قبل أن تندثر، وتعيد إحياء ما طمره الغبار والوقت. كان يصوّر الحجر كأنّه إنسان، ويعامل الأثر كأنه نبضٌ من الذاكرة، فيجعل من كل لقطةٍ قصيدة ضوئية صامتة عن حضارةٍ بلاد الشام التي لا تموت.
السمات الفنية والموضوعات المفضلة:
كانت هناك دائمًا موضوعات مميزة في أعماله منها:
التراث المعماري، الآثار، المدن القديمة، البيوت الدمشقية، المشاهد الشعبية، والتفاصيل الدقيقة في الحجارة والزخارف والأختام.وأذكر بأنه دائما كانت صورة تكون في التقويم السنوي لوزارة السياحة وايضا شركة الطيران السوري وعلى مدى أعوام.
كان لا يكتفي بنسخ الواقع، بل يوازن بين التوثيق الدقيق وطرح بصري فني، وايضا يشتغل على صياغة الصورة، ويختيار الزاوية والضوء والتكوين بحيث ينقل رسالة جمالية إلى المتلقي والمشاهد.
في بعض تجاربه استخدم ما يُشبه المعالجة المخبرية
(التلاعب في التظهير ( التحميض)، الأوراق الكيميائية، أملاح التصوير) للوصول إلى تأثيرات بصرية مبتكرة. وكان ذلك واضحا وجليا ،عندما عُرضت اعماله بمعرض حمل إسم “خلجات” في باريس (بدعوة من الجمعية الفرنسية لروّاد التصوير الضوئي)، جمع فيه 150 لوحة ضوئية باستخدام تأثيرات مخبريه، وكان يُصنّف بين التصوير التجريدي والتشكيل الفني المعاصر.
التكريم والجوائز:
حصل على وسام الاستحقاق السوري تقديرًا لإسهاماته في ميدان التصوير الأثري والتراثي، وهو تكريم نادر لمن يعمل في التصوير في العالم العربي.
منح شهادة الدكتوراه الفخرية من ألمانيا الفدرالية تقديرًا لمكانته في التصوير الضوئي.
الوفاة والإرث الثقافي والارشيف الضخم:
توفي مروان مسلماني في 21 فبراير 2013م ،عن عمر يقارب 77 عامًا.
تُقدَّر عدد صوره التي تركها بأكثر من أربعة ملايين صورة (صور صغيرة وكبيرة) تنتشر في أرشيفات ومتاحف ومؤلفات حول العالم.
لا يزال أرشيفه مرجعًا مهمًا للدارسين والمهتمين بالتراث السوري، إذ توظَّف صوره في كتب ودراسات ومشاريع ترميم.
بعد وفاته، اعتُبر محتفى به في الأوساط الفنية والتراثية، وأُقيمت له معارض تكريمية لاستعراض أرشيفه الضخم.
بيد أن الكثير من رواد التصوير في سورية يرونه منطلقًا في مسار التصوير المعاصر والتراثي، ويرون في أعماله مصدر إلهام وإبداع ومنارة للأجيال من عشاق الفوتوغرافيا.
وختامها مسك وعنبر:
رحل الدكتور مروان مسلماني تاركًا خلفه إرثًا بصريًا لا يقدّر بثمن، لكنه لم يرحل فعلاً؛ إذ ما تزال صوره تتحدث، وما تزال كتبه تنبض بالحياة في المكتبات والمتاحف. كان يؤمن بأن “الفوتوغرافيا ذاكرة الأمم”، وأن الصورة قادرة على أن تكتب تاريخًا لا تبلغه الكلمات.
لقد علّم أجيالًا من المصورين السوريين والعرب أن العدسة أمانة، وأن توثيق الجمال والآثار فعل انتماء لا مهنة.
وفي زمنٍ تتسابق فيه العدسات على اللحظة العابرة، تبقى عدسة مروان مسلماني حارسةً للخلود، شاهدةً على أن الفن حين يتّحد بالعلم يصنع التاريخ.
خاتمة القول الفصل:
وندلف للقول أخيرا بأن الفنان السوري الدكتور: مروان مسلماني ..هو رمز من رموز الحفاظ على التراث والتوثيق الضوئي، ترك إرثاً فنياً وعلمياً هائلاً سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة. حيث ساهم بإثراء المشهد الثقافي الفني الضوئي العربي بطريقته الفريدة.



























